فصل: فَصْلٌ: شَرَائِطُ الْإِكْرَاهِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.كِتَابُ الْإِكْرَاهِ:

الْكَلَامُ فِي هَذَا الْكِتَابِ فِي مَوَاضِعَ فِي بَيَانِ مَعْنَى الْإِكْرَاهِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَفِي بَيَانِ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ الْإِكْرَاهِ، وَفِي بَيَانِ حُكْمِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ إذَا أَتَى بِهِ الْمُكْرَهُ وَفِي بَيَانِ مَا عَدْلُ الْمُكْرَهِ إلَى غَيْرِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ أَوْ زَادَ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ أَوْ نَقَصَ عَنْهُ.
(أَمَّا) الْأَوَّلُ فَالْإِكْرَاهُ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إثْبَاتِ الْكُرْهِ، وَالْكُرْهُ مَعْنًى قَائِمٌ بِالْمُكْرَهِ يُنَافِي الْمَحَبَّةَ وَالرِّضَا؛ وَلِهَذَا يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَابِلَ الْآخَرِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}؛ وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَكْرَهُ الْكُفْرَ وَالْمَعَاصِيَ، أَيْ لَا يُحِبُّهَا وَلَا يَرْضَى بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي بِإِرَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّعَاءِ إلَى الْفِعْلِ بِالْإِيعَادِ وَالتَّهْدِيدِ مَعَ وُجُودِ شَرَائِطِهَا الَّتِي نَذْكُرُهَا فِي مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.فَصْلٌ: بَيَانُ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ:

وَأَمَّا بَيَانُ أَنْوَاعِ الْإِكْرَاهِ فَنَقُولُ: إنَّهُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ طَبْعًا كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَالضَّرْبِ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ قَلَّ الضَّرْبُ أَوْ كَثُرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهُ بِعَدَدِ ضَرَبَاتِ الْحَدِّ، وَأَنَّهُ غَيْرُ سَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَيْهِ تَحَقُّقُ الضَّرُورَةِ فَإِذَا تَحَقَّقَتْ فَلَا مَعْنَى لِصُورَةِ الْعَدَدِ، وَهَذَا النَّوْعُ يُسَمَّى إكْرَاهًا تَامًّا، وَنَوْعٌ لَا يُوجِبُ الْإِلْجَاءَ وَالِاضْطِرَارَ وَهُوَ الْحَبْسُ وَالْقَيْدُ وَالضَّرْبُ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ، وَلَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ لَازِمٌ سِوَى أَنْ يَلْحَقَهُ مِنْهُ الِاغْتِمَامُ الْبَيِّنُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَعْنِي الْحَبْسَ وَالْقَيْدَ وَالضَّرْبَ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِكْرَاهِ يُسَمَّى إكْرَاهًا نَاقِصًا.

.فَصْلٌ: شَرَائِطُ الْإِكْرَاهِ:

وَأَمَّا شَرَائِطُ الْإِكْرَاهِ فَنَوْعَانِ: نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرِهِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرَهِ.
(أَمَّا) الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرِهِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَحْقِيقِ مَا أَوْعَدَ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ، وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ:- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- إنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ.
(وَجْهُ) قَوْلِهِمَا: إنَّ الْإِكْرَاهَ لَيْسَ إلَّا إيعَادٌ بِإِلْحَاقِ الْمَكْرُوهِ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ مِنْ كُلِّ مُسَلَّطٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: غَيْرُ السُّلْطَانِ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْقِيقِ مَا أَوْعَدَ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَسْتَغِيثُ بِالسُّلْطَانِ فَيُغِيثُهُ فَإِذَا كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ السُّلْطَانُ فَلَا يَجِدُ غَوْثًا، وَقِيلَ: إنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْمَعْنَى إنَّمَا هُوَ خِلَافُ زَمَانٍ فَفِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ قُدْرَةُ الْإِكْرَاهِ ثُمَّ تَغَيَّرَ الْحَالُ فِي زَمَانِهِمَا فَغَيَّرَ الْفَتْوَى عَلَى حَسَبِ الْحَالِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِتَحَقُّقِ الْإِكْرَاهِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إذَا كَانَ مُطَاعًا مُسَلَّطًا، وَكَذَلِكَ الْعَقْلُ وَالتَّمْيِيزُ الْمُطْلَقُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ مِنْ الْبَالِغِ الْمُخْتَلَطِ الْعَقْلِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُطَاعًا مُسَلَّطًا.
(وَأَمَّا) النَّوْعُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْمُكْرَهِ فَهُوَ أَنْ يَقَعَ فِي غَالِبِ رَأْيِهِ وَأَكْثَرِ ظَنِّهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجِبْ إلَى مَا دُعِيَ إلَيْهِ تَحَقَّقَ مَا أُوعِدَ بِهِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ حُجَّةٌ خُصُوصًا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى التَّعَيُّنِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِ الْمُكْرَهِ أَنَّ الْمُكْرِهَ لَا يُحَقِّقُ مَا أَوْعَدَهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ شَرْعًا، وَإِنْ وَجَدَ صُورَةَ الْإِيعَادِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ، وَمِثْلُهُ لَوْ أَمَرَهُ بِفِعْلٍ وَلَمْ يُوعِدْهُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ فِي أَكْثَرِ رَأْيِ الْمُكْرَهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ تَحَقَّقَ مَا أَوْعَدَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَلِهَذَا إنَّهُ لَوْ كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ عَنْ تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَصَبَرَ إلَى أَنْ يَلْحَقَهُ الْجُوعُ الْمُهْلِكُ لَأُزِيلَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ لَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ بِتَنَاوُلِهَا، وَإِنْ كَانَ فِي أَكْثَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ، وَإِنْ صَبَرَ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ لَمَا أُزِيلَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ يُبَاحُ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا لِلْحَالِ دَلَّ أَنَّ الْعِبْرَةَ لِغَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْثَرِ الظَّنِّ دُونَ صُورَةِ الْإِيعَادِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ:

وَأَمَّا بَيَانُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ- مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: حِسِّيٌّ وَشَرْعِيٌّ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُعَيَّنٍ وَمُخَيَّرٍ فِيهِ، أَمَّا الْحِسِّيُّ الْمُعَيَّنُ فِي كَوْنِهِ مُكْرَهًا عَلَيْهِ فَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالشَّتْمُ وَالْكُفْرُ وَالْإِتْلَافُ وَالْقَطْعُ عَيْنًا.
وَأَمَّا الشَّرْعِيُّ فَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالتَّدْبِيرُ وَالنِّكَاحُ وَالرَّجْعَةُ وَالْيَمِينُ وَالنَّذْرُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ فِي الْإِيلَاءِ وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْهِبَةُ وَالْإِجَارَةُ وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْحُقُوقِ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ وَتَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ وَتَرْكُ طَلَبِهَا وَنَحْوُهَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ حُكْمِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ:

وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ- أَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الْحِسِّيَّةُ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمَانِ: أَحَدُهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ، وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا أَمَّا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ-.
التَّصَرُّفَاتُ الْحِسِّيَّةُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا الْإِكْرَاهُ فِي حَقِّ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ هُوَ مُبَاحٌ، وَنَوْعٌ هُوَ مُرَخَّصٌ، وَنَوْعٌ هُوَ حَرَامٌ لَيْسَ بِمُبَاحٍ وَلَا مُرَخَّصٍ.
(أَمَّا) النَّوْعُ الَّذِي هُوَ مُبَاحٌ فَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا بِأَنْ كَانَ بِوَعِيدِ تَلَفٍ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا تُبَاحُ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إلَّا مَا اُضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ}، أَيْ دَعَتْكُمْ شِدَّةُ الْمَجَاعَةِ إلَى أَكْلِهَا، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ وَقَدْ تَحَقَّقَ الِاضْطِرَارُ بِالْإِكْرَاهِ فَيُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ بَلْ لَا يُبَاحُ لَهُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ، وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْهُ حَتَّى قُتِلَ يُؤَاخَذُ بِهِ كَمَا فِي حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ؛ لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ صَارَ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَهَى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ}، وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَلَا يُرَخَّصُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ لِلضَّرُورَةِ بَلْ لِدَفْعِ الْغَمِّ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ بِحُكْمِهَا قَائِمَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِالْإِجَاعَةِ بِأَنْ قَالَ: لَتَفْعَلَنَّ كَذَا وَإِلَّا لَأُجِيعَنَّكَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ حَتَّى يَجِيئَهُ مِنْ الْجُوعِ مَا يُخَافُ مِنْهُ تَلَفُ النَّفْسِ أَوْ الْعُضْوِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) النَّوْعُ الَّذِي هُوَ مُرَخَّصٌ فَهُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا وَهُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ مَعَ ثُبُوتِ الرُّخْصَةِ، فَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ لَا فِي تَغَيُّرِ وَصْفِهِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ الْكُفْرِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً إلَّا أَنَّهُ سَقَطَتْ الْمُؤَاخَذَةُ؛ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْكَلَامِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَالِامْتِنَاعُ عَنْهُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ فَقُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا؛ لِأَنَّهُ جَادَ بِنَفْسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَرْجُو أَنْ يَكُونَ لَهُ ثَوَابُ الْمُجَاهِدِينَ بِالنَّفْسِ هُنَا، وَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ قُتِلَ مُجْبَرًا فِي نَفْسِهِ فَهُوَ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَذَلِكَ التَّكَلُّمُ بِشَتْمِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا أَكْرَهَهُ الْكُفَّارُ وَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: مَا وَرَاءَك يَا عَمَّارُ فَقَالَ: شَرٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَرَكُونِي حَتَّى نِلْتُ مِنْكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ عَادُوا فَعُدْ» فَقَدْ رَخَّصَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي إتْيَانِ الْكَلِمَةِ بِشَرِيطَةِ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ حَيْثُ أَمَرَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِالْعَوْدِ إلَى مَا وُجِدَ مِنْهُ، لَكِنْ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ أَفْضَلُ لِمَا مَرَّ، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ شَتْمُ الْمُسْلِمِ، لِأَنَّ عِرْضَ الْمُسْلِمِ حَرَامُ التَّعَرُّضِ فِي كُلِّ حَالٍ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ» إلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ لَهُ، لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ.
وَأَثَرُ الرُّخْصَةِ فِي سُقُوطِ الْمُؤَاخَذَةِ دُونَ الْحُرْمَةِ، وَالِامْتِنَاعُ عَنْهُ حِفْظًا لِحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ وَإِيثَارًا لَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَفْضَلُ وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ: إتْلَافُ مَالِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ حُرْمَةُ دَمِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِحَالٍ إلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لَهُ الْإِتْلَافُ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ حَالَ الْمَخْمَصَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَلَوْ امْتَنَعَ حَتَّى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُثَابُ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ قَائِمَةٌ فَهُوَ بِالِامْتِنَاعِ قَضَى حَقَّ الْحُرْمَةِ فَكَانَ مَأْجُورًا لَا مَأْزُورًا وَكَذَلِكَ إتْلَافُ مَالِ نَفْسِهِ مُرَخَّصٌ بِالْإِكْرَاهِ لَكِنْ مَعَ قِيَامِ الْحُرْمَةِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ فَقُتِلَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُثَابُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِهِ لَا تَسْقُطُ بِالْإِكْرَاهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ الدَّفْعُ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «قَاتِلْ دُونَ مَالِكَ وَكَذَا مَنْ أَصَابَتْهُ الْمَخْمَصَةُ فَسَأَلَ صَاحِبَهُ الطَّعَامَ فَمَنَعَهُ فَامْتَنَعَ مِنْ التَّنَاوُلِ حَتَّى مَاتَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ» لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ رَاعَى حَقَّ الْحُرْمَةِ هَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا، فَإِنْ كَانَ نَاقِصًا مِنْ الْحَبْسِ وَالْقَيْدِ وَالضَّرْبِ الَّذِي لَا يُخَافُ مِنْهُ تَلَفُ النَّفْسِ وَالْعُضْوِ لَا يُرَخَّصُ لَهُ أَصْلًا، وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ.
وَإِنْ قَالَ: كَانَ قَلْبِي مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ عَلَى مَا نَذْكُرُ، وَيَأْثَمُ بِشَتْمِ الْمُسْلِمِ وَإِتْلَافِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَمْ تَتَحَقَّقْ، وَكَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا وَلَكِنْ فِي أَكْبَرِ رَأْيِ الْمُكْرَهِ أَنَّ الْمُكْرِهَ لَا يُحَقِّقُ مَا أَوْعَدَهُ لَا يُرَخَّصُ لَهُ الْفِعْلُ أَصْلًا، وَلَوْ فَعَلَ يَأْثَمُ لِانْعِدَامِ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ لِانْعِدَامِ الْإِكْرَاهِ شَرْعًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) النَّوْعُ الَّذِي لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ بِالْإِكْرَاهِ أَصْلًا فَهُوَ قَتْلُ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ سَوَاءٌ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا أَوْ تَامًّا؛ لِأَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ بِحَالٍ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ}، وَكَذَا قَطْعُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَالضَّرْبُ الْمُهْلِكُ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}، وَكَذَلِكَ ضَرْبُ الْوَالِدَيْنِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}، وَالنَّهْيُ عَنْ التَّأْفِيفِ نَهْيٌ عَنْ الضَّرْبِ دَلَالَةً بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى فَكَانَتْ الْحُرْمَةُ قَائِمَةً بِحُكْمِهَا فَلَا يُرَخَّصُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَقْدَمَ يَأْثَمُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) ضَرْبُ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ كَضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ نَحْوِهِ فَيُرْجَى أَنْ لَا يُؤَاخَذَ بِهِ، وَكَذَا الْحَبْسُ وَالْقَيْدُ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ دُونَ ضَرَرِ الْمُكْرَهِ بِكَثِيرٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَرْضَى بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الضَّرَرِ لِإِحْيَاءِ أَخِيهِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ أَوْ قَطَعَهُ أَوْ ضَرَبَهُ، فَقَالَ لِلْمُكْرَهِ: افْعَلْ لَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ وَلَوْ فَعَلَ فَهُوَ آثِمٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ بِنَفْسِهِ أَثِمَ فَبِغَيْرِهِ أَوْلَى، وَكَذَا الزِّنَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ لِلرَّجُلِ بِالْإِكْرَاهِ، وَإِنْ كَانَ تَامًّا وَلَوْ فَعَلَ يَأْثَمُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا ثَابِتَةٌ فِي الْعُقُولِ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً فِي الْعَقْلِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّخْصَةَ بِحَالٍ كَقَتْلِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ أَذِنَتْ الْمَرْأَةُ بِهِ لَا يُبَاحُ أَيْضًا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً أَذِنَ لَهَا مَوْلَاهَا؛ لِأَنَّ الْفَرْجَ لَا يُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ.
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيُرَخَّصُ لَهَا؛ لِأَنَّ الَّذِي يُتَصَوَّرُ مِنْهَا لَيْسَ إلَّا التَّمْكِينُ، وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ مَدْفُوعَةٌ إلَيْهِ، وَهَذَا عِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا كَمَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الرَّجُلِ يُتَصَوَّرُ مِنْ الْمَرْأَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّاهَا زَانِيَةً إلَّا أَنَّ زِنَا الرَّجُلِ بِالْإِيلَاجِ، وَزِنَاهَا بِالتَّمْكِينِ وَالتَّمْكِينُ فِعْلٌ مِنْهَا لَكِنَّهُ فِعْلُ سُكُوتٍ فَاحْتَمَلَ الْوَصْفَ بِالْحَظْرِ وَالْحُرْمَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهِ حُكْمُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فَلَا يُرَخَّصُ لِلْمَرْأَةِ كَمَا لَا يُرَخَّصُ لِلرَّجُلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الْحُكْمُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا فِي الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ: أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَالْمُكْرَهُ عَلَى الشُّرْبِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا عَنْ الْجِنَايَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالشُّرْبُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ جِنَايَةً بِالْإِكْرَاهِ، وَصَارَ مُبَاحًا بَلْ وَاجِبًا عَلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِذَا كَانَ نَاقِصًا يَجِبُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَمْ يُوجِبْ تَغَيُّرَ الْفِعْلِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ بِوَجْهٍ مَا، فَلَا يُوجِبُ تَغَيُّرَ حُكْمِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) النَّوْعُ الثَّانِي فَالْمُكْرَهُ عَلَى الْكُفْرِ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْإِيمَانِ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِيمَانِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ الْإِيمَانَ فِي الْحَقِيقَةِ تَصْدِيقٌ وَالْكُفْرَ فِي الْحَقِيقَةِ تَكْذِيبٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يَعْمَلُ عَلَى الْقَلْبِ فَإِنْ كَانَ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ كَانَ مُؤْمِنًا لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ، وَإِنْ كَانَ مُكَذِّبًا بِقَلْبِهِ كَانَ كَافِرًا لِوُجُودِ حَقِيقَةِ الْكُفْرِ إلَّا أَنَّ عِبَارَةَ اللِّسَانِ جُعِلَتْ دَلِيلًا عَلَى التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ ظَاهِرًا حَالَةَ الطَّوْعِ، وَقَدْ بَطَلَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ بِالْإِكْرَاهِ فَبَقِيَ الْإِيمَانُ مِنْهُ وَالْكُفْرُ مُحْتَمَلًا، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْكَمَ بِالْإِسْلَامِ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ كَمَا لَمْ يُحْكَمْ بِالْكُفْرِ فِيهَا بِالِاحْتِمَالِ إلَّا أَنَّهُ حُكِمَ بِذَلِكَ؛ لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّا إنَّمَا قَبِلْنَا ظَاهِرَ إيمَانِهِ مَعَ الْإِكْرَاهِ لِيُخَالِطَ الْمُسْلِمِينَ فَيَرَى مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فَيَئُولُ أَمْرُهُ إلَى الْحَقِيقَةِ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْلَمُ بِإِيمَانِهِ لَا قَطْعًا وَلَا غَالِبًا.
وَهَذَا جَائِزٌ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَبَاكَ وَتَعَالَى أَمَرَنَا فِي النِّسَاءِ الْمُهَاجِرَاتِ بِامْتِحَانِهِنَّ بَعْدَ وُجُودِ ظَاهِرِ الْكَلِمَةِ مِنْهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} لِيَظْهَرَ لَنَا إيمَانُهُنَّ بِالدَّلِيلِ الْغَالِبِ؛ لِقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ} كَذَا هَاهُنَا، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ وَالثَّانِي أَنَّ اعْتِبَارَ الدَّلِيلِ الْمُحْتَمَلِ فِي بَابِ الْإِسْلَامِ يَرْجِعُ إلَى إعْلَاءِ الدِّينِ الْحَقِّ، وَأَنَّ اعْتِبَارَ الْغَالِبِ يَرْجِعُ إلَى ضِدِّهِ، وَإِعْلَاءُ الدِّينِ الْحَقِّ وَاجِبٌ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى» فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمُحْتَمَلِ دُونَ الْغَالِبِ إعْلَاءً لِدِينِ الْحَقِّ، وَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ بِإِيمَانِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْحُكْمِ بِعَدَمِ كُفْرِ الْمُكْرَهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ ثُمَّ رَجَعَ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَلَا يُقْتَلُ بَلْ يُحْبَسُ وَلَكِنْ لَا يُقْتَلُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْتَلَ لِوُجُودِ الرِّدَّةِ مِنْهُ وَهِيَ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِسْلَامِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّا إنَّمَا قَبِلْنَا كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ مِنْهُ ظَاهِرًا طَمَعًا لِلْحَقِيقَةِ، لِيُخَالِطَ الْمُسْلِمِينَ فَيَرَى مَحَاسِنَ الْإِسْلَامِ فَيَنْجَعَ التَّصْدِيقُ فِي قَلْبِهِ عَلَى مَا مَرَّ فَإِذَا رَجَعَ تُبُيِّنَ أَنَّهُ لَا مَطْمَعَ لِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ فِيهِ، وَأَنَّهُ عَلَى اعْتِقَادِهِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا رُجُوعًا عَنْ الْإِسْلَامِ بَلْ إظْهَارًا لِمَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّكْذِيبِ فَلَا يُقْتَلُ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ حَتَّى حُكِمَ بِإِسْلَامِهِمْ تَبَعًا لِأَبِيهِمْ فَبَلَغُوا كُفَّارًا يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلَا يُقْتَلُونَ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الْإِسْلَامُ حَقِيقَةً فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الرُّجُوعُ عَنْهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ أَسْلَمَ أَمْسِ فَأَقَرَّ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ لِمَا نَذْكُرُ فِي مَوْضِعِهِ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- وَإِذَا لَمْ يُحْكَمْ بِكُفْرِهِ بِإِجْرَاءِ الْكَلِمَةِ لَا تَثْبُتُ أَحْكَامُ الْكُفْرِ حَتَّى لَا تَبِينَ مِنْهُ امْرَأَتُهُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ تَثْبُتَ الْبَيْنُونَةُ؛ لِوُجُودِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ وَهُوَ الْكَلِمَةُ أَوْ هِيَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةِ الطَّلَاقِ ثُمَّ حُكْمُ تِلْكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالطَّوْعِ وَالْكَرْهِ فَكَذَا حُكْمُ هَذِهِ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ الرِّدَّةُ دُونَ نَفْسِ الْكَلِمَةِ، وَإِنَّمَا الْكَلِمَةُ دَلَالَةٌ عَلَيْهَا حَالَةَ الطَّوْعِ، وَلَمْ يَبْقَ دَلِيلًا حَالَةَ الْإِكْرَاهِ فَلَمْ تَثْبُتْ الرِّدَّةُ فَلَا تَثْبُتُ الْبَيْنُونَةُ، وَلَوْ قَالَ الْمُكْرَهُ خَطَرَ بِبَالِي فِي قَوْلِي: كَفَرْت بِاَللَّهِ أَنْ أُخْبِرَ عَنْ الْمَاضِي كَاذِبًا، وَلَمْ أَكُنْ فَعَلْت لَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ دُعِيَ إلَى إنْشَاءِ الْكُفْرِ، وَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَتَى بِالْإِخْبَارِ وَهُوَ غَيْرُ مُكْرَهٍ عَلَى الْإِخْبَارِ بَلْ هُوَ طَائِعٌ فِيهِ، وَلَوْ قَالَ طَائِعًا: كَفَرْت بِاَللَّهِ ثُمَّ قَالَ عَنَيْت بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ الْمَاضِي كَاذِبًا وَلَمْ أَكُنْ فَعَلْت لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ كَذَا هَذَا وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الظَّاهِرِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِخْبَارِ فِيمَا مَضَى ثُمَّ قَالَ مَا أَرَدْت بِهِ الْخَبَرَ عَنْ الْمَاضِي فَهُوَ كَافِرٌ فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُجِبْهُ إلَى مَا دَعَاهُ إلَيْهِ بَلْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَنْشَأَ الْكُفْرَ طَوْعًا وَلَوْ قَالَ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِي شَيْءٌ آخَرُ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُرِدْ شَيْئًا يُحْمَلُ عَلَى الْإِجَابَةِ إلَى ظَاهِرِ الْكَلِمَةِ مَعَ اطْمِئْنَانِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ فَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الصَّلَاةِ لِلصَّلِيبِ فَقَامَ يُصَلِّي فَخَطَرَ بِبَالِهِ أَنْ يُصَلِّيَ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُسْتَقْبِلٌ الْقِبْلَةَ أَوْ غَيْرُ مُسْتَقْبِلٍ الْقِبْلَةَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ بِالصَّلَاةِ أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا قَالَ نَوَيْت بِهِ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِغَيْرِ مَا دُعِيَ إلَيْهِ فَكَانَ طَائِعًا، وَالطَّائِعُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَ: نَوَيْت بِهِ ذَلِكَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ كَذَا هَذَا، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ شَأْنُهُ؛ لِأَنَّهُ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ فِعْلُهُ، وَلَوْ صَلَّى لِلصَّلِيبِ وَلَمْ يُصَلِّ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ خَطَرَ بِبَالِهِ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ فِي الْقَضَاءِ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ صَلَّى لِلصَّلِيبِ طَائِعًا مَعَ إمْكَانِ الصَّلَاةِ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَإِنْ كَانَ مُسْتَقْبِلَ الصَّلِيبِ، فَإِنْ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ وَصَلَّى لِلصَّلِيبِ ظَاهِرًا، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَيُحْمَلُ عَلَى الْإِجَابَةِ إلَى ظَاهِرِ مَا دُعِيَ إلَيْهِ مَعَ سُكُونِ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى سَبِّ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَخَطَرَ بِبَالِهِ رَجُلٌ آخَرُ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ فَسَبَّهُ، وَأَقَرَّ بِذَلِكَ لَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ، وَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا خَطَرَ بِبَالِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَهَذَا طَائِعٌ فِي سَبِّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثُمَّ قَالَ: عَنَيْت بِهِ غَيْرَهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ كَلَامُهُ، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ بِالسَّبِّ رَجُلًا آخَرَ، فَسَبَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُوَ كَافِرٌ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّ شَأْنُهُ، وَلَوْ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ شَيْءٌ لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَيُحْمَلُ عَلَى جِهَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى مَا مَرَّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ تَامًّا، فَأَمَّا إذَا كَانَ نَاقِصًا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكْرَهٍ فِي الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ مَا فَعَلَهُ لِلضَّرُورَةِ بَلْ لِدَفْعِ الْغَمِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَوْ قَالَ: كَانَ قَلْبِي مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ لَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ كَالطَّائِعِ إذَا أَجْرَى الْكَلِمَةَ ثُمَّ قَالَ: كَانَ قَلْبِي مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
(وَأَمَّا) الْمُكْرَهُ عَلَى إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ إذَا أَتْلَفَهُ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا؛ لِأَنَّ الْمُتْلِفَ هُوَ الْمُكْرَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا الْمُكْرَهُ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مَسْلُوبُ الِاخْتِيَارِ إيثَارًا وَارْتِضَاءً، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْفِعْلِ مِمَّا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ غَيْرِهِ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُكْرَهَ فَيَضْرِبَهُ عَلَى الْمَالِ فَأَمْكَنَ جَعْلُهُ آلَةَ الْمُكْرِهِ، فَكَانَ التَّلَفُ حَاصِلًا بِإِكْرَاهِهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرَهِ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ آلَةَ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْلَبُ الِاخْتِيَارُ أَصْلًا، فَكَانَ الْإِتْلَافُ مِنْ الْمُكْرَهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ مَالَ غَيْرِهِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْفِعْلِ وَهُوَ الْأَكْلُ مِمَّا لَا يَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ غَيْرِهِ فَكَانَ طَائِعًا فِيهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَأْكُلَ طَعَامَ نَفْسِهِ فَأَكَلَ أَوْ عَلَى أَنْ يَلْبَسَ ثَوْبَ نَفْسِهِ فَلَبِسَ حَتَّى تَخَرَّقَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى أَكْلِ مَالِ غَيْرِهِ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ فَعَلَى مَالِ نَفْسِهِ أَوْلَى مَعَ مَا أَنَّ أَكْلَ مَالِ نَفْسِهِ وَلُبْسَ ثَوْبِ نَفْسِهِ لَيْسَ مِنْ بَابِ الْإِتْلَافِ بَلْ هُوَ صَرْفُ مَالِ نَفْسِهِ إلَى مَصْلَحَةِ بَقَائِهِ، وَمَنْ صَرَفَ مَالَ نَفْسِهِ إلَى مَصْلَحَتِهِ لَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ.
وَلَوْ أَذِنَ صَاحِبُ الْمَالِ الْمُكْرَهُ بِإِتْلَافِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَأَتْلَفَهُ لَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْإِتْلَافِ يَعْمَلُ فِي الْأَمْوَالِ؛ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ مِمَّا تُبَاحُ بِالْإِبَاحَةِ، وَإِتْلَافُ مَالٍ مَأْذُونٍ فِيهِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) النَّوْعُ الثَّالِثُ فَأَمَّا الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ فَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ وَيَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا وَلَكِنْ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْمُكْرِهِ وَعِنْدَ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ دُونَ الْمُكْرِهِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَجِبُ عَلَيْهِمَا.
(وَجْهُ) قَوْلِ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يُفْضِي إلَى زُهُوقِ الْحَيَاةِ عَادَةً، وَقَدْ وُجِدَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّهُ حَصَلَ مِنْ الْمُكْرَهِ مُبَاشَرَةً وَمِنْ الْمُكْرِهِ تَسْبِيبًا، فَيَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا.
(وَجْهُ) قَوْلِ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الْقَتْلَ وُجِدَ مِنْ الْمُكْرَهِ حَقِيقَةً حِسًّا وَمُشَاهَدَةً، وَإِنْكَارُ الْمَحْسُوسِ مُكَابَرَةٌ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ مِنْهُ دُونَ الْمُكْرِهِ إذْ الْأَصْلُ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهَا إلَّا بِدَلِيلٍ.
(وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَنَّ الْمُكْرِهَ لَيْسَ بِقَاتِلٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ مُسَبِّبٌ لِلْقَتْلِ، وَإِنَّمَا الْقَاتِلُ هُوَ الْمُكْرَهُ حَقِيقَةً ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْمُكْرَهِ أَوْلَى (وَجْهُ) قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ- مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عَفَوْتُ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»، وَعَفْوُ الشَّيْءِ عَفْوٌ عَنْ مُوجَبِهِ فَكَانَ مُوجَبُ الْمُسْتَكْرَهِ عَلَيْهِ مَعْفُوًّا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ هُوَ الْمُكْرِهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ مِنْ الْمُكْرَهِ صُورَةُ الْقَتْلِ فَأَشْبَهَ الْآلَةَ إذْ الْقَتْلُ مِمَّا يُمْكِنُ اكْتِسَابُهُ بِآلَةِ الْغَيْرِ كَإِتْلَافِ الْمَالِ، ثُمَّ الْمُتْلِفُ هُوَ الْمُكْرِهُ حَتَّى كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ، فَكَذَا الْقَاتِلُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَطْعِ يَدِ نَفْسِهِ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ الْمُكْرِهِ، وَلَوْ كَانَ هُوَ الْقَاطِعُ حَقِيقَةً لَمَا اقْتَصَّ، وَلِأَنَّ مَعْنَى الْحَيَاةِ أَمْرٌ لابد مِنْهُ فِي بَابِ الْقِصَاصِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وَمَعْنَى الْحَيَاةِ شَرْعًا وَاسْتِيفَاءً لَا يَحْصُلُ بِشَرْعِ الْقِصَاصِ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ وَاسْتِيفَائِهِ مِنْهُ عَلَى مَا مَرَّ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ؛ لِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ، وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ يَسْلُبُ الِاخْتِيَارَ أَصْلًا فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُكْرَهُ صَبِيًّا أَوْ مَعْتُوهًا يَعْقِلُ مَا أُمِرَ بِهِ فَالْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ الْمُكْرَهُ يَعْقِلُ وَهُوَ مُطَاعٌ أَوْ بَالِغٌ مُخْتَلَطُ الْعَقْلِ- وَهُوَ مُسَلَّطٌ- لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ؛ لِأَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ خَطَأٌ.
وَلَوْ قَالَ الْمُكْرَهُ عَلَى قَتْلِهِ الْمُكْرَهَ: اُقْتُلْنِي مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَقَتَلَهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ، فَهَذَا أَوْلَى، وَعِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَكَذَا لَا قِصَاصَ عَلَى الْمُكْرَهِ عِنْدَنَا، وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ رِوَايَتَانِ وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ كِتَابُ الدِّيَاتِ، وَمِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى قَتْلِ مُوَرِّثِهِ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ؛ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْمُكْرَهِ صُورَةُ الْقَتْلِ لَا حَقِيقَتُهُ بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى الْآلَةِ، فَكَانَ الْقَتْلُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرَهِ، وَلِأَنَّهُ قَتْلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ وَلَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ فَلَا يُوجِبُ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الْقِصَاصِ.
(وَأَمَّا) الْمُكْرِهُ فَيُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ- لَا يُحْرَمُ لِانْعِدَامِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَالْكَفَّارَةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ بَالِغًا فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا وَهُوَ وَارِثُ الْمَقْتُولِ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ كَوْنِ الْقَتْلِ جَازِمًا أَنْ يَكُونَ حَرَامًا وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ، وَلِهَذَا إذَا قَتَلَهُ بِيَدِ نَفْسِهِ لَا يُحْرَمُ فَإِذَا قَتَلَهُ بِيَدِ غَيْرِهِ أَوْلَى، وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ عَلَى قَطْعِ يَدِ إنْسَانٍ إذَا قَطَعَ فَهُوَ عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْقَتْلِ غَيْرَ أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ إذَا كَانَ أَذِنَ لِلْمُكْرَهِ بِقَطْعِ يَدِهِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ فَقَطَعَ لَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ، وَفِي بَابِ الْقَتْلِ إذَا أَذِنَ الْمُكْرَهُ عَلَى قَتْلِهِ لِلْمُكْرَهِ بِالْقَتْلِ فَقَتَلَ فَهُوَ اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَطْرَافَ يُسْلَكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَالْإِذْنُ بِإِتْلَافِ الْمَالِ الْمَحْضِ مُبِيحٌ، فَالْإِذْنُ بِإِتْلَافِ مَالِهِ حُكْمُ الْمَالِ فِي الْجُمْلَةِ يُورِثُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِخِلَافِ النَّفْسِ يَدُلُّ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهُ: لَتَقْطَعَنَّ يَدَك وَإِلَّا لَأَقْتُلَنَّكَ كَانَ فِي سِعَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يَسَعُهُ ذَلِكَ فِي النَّفْسِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الْمُكْرَهُ عَلَى الزِّنَا فَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يَقُولُ أَوَّلًا إذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ عَلَى الزِّنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ فَكَانَ طَائِعًا فِي الزِّنَا فَكَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ: إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مِنْ السُّلْطَانِ لَا يَجِبُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ فَإِذَا جَاءَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ مَا يَجِيءُ مِنْ السُّلْطَانِ لَا يَجِبُ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْمُكْرَهَ يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ، وَلَا يَجِدُ غَوْثًا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مِنْهُ.
(وَأَمَّا) قَوْلُهُ إنَّ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِانْتِشَارِ الْآلَةِ فَنَعَمْ لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ تَنْتَشِرُ آلَتُهُ يَفْعَلُ، فَكَانَ فِعْلُهُ بِنَاءً عَلَى إكْرَاهِهِ فَيَعْمَلُ فِيهِ لِضَرُورَتِهِ مَدْفُوعًا إلَيْهِ خَوْفًا مِنْ الْقَتْلِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ، وَلَكِنْ يَجِبُ الْعُقْرُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَخْلُو عَنْ إحْدَى الْغَرَامَتَيْنِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْعُقْرُ عَلَى الْمُكْرَهِ دُونَ الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الزِّنَا مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ غَيْرِهِ، وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ مَا لَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ الْغَيْرِ فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَمَا يُتَصَوَّرُ تَحْصِيلُهُ بِآلَةِ الْغَيْرِ فَضَمَانُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا أُكْرِهَتْ عَلَى الزِّنَا لَا حَدَّ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا بِالْإِكْرَاهِ صَارَتْ مَحْمُولَةً عَلَى التَّمْكِينِ خَوْفًا مِنْ مَضَرَّةِ السَّيْفِ، فَيُمْنَعُ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا كَمَا فِي جَانِبِ الرَّجُلِ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْهَا لَيْسَ إلَّا التَّمْكِينُ ثُمَّ الْإِكْرَاهُ لَمَّا أَثَّرَ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ فَلَأَنْ يُؤَثِّرَ فِي جَانِبِهَا أَوْلَى هَذَا إذَا كَانَ إكْرَاهُ الرَّجُلِ تَامًّا، فَأَمَّا إذَا كَانَ نَاقِصًا بِحَبْسٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ ضَرْبٍ لَا يُخَافُ مِنْهُ التَّلَفُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ مَدْفُوعًا إلَى فِعْلِ مَا أُكْرِهَ فَبَقِيَ مُخْتَارًا مُطْلَقًا فَيُؤَاخَذُ بِحُكْمِ فِعْلِهِ.
(وَأَمَّا) فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ وَالنَّاقِصِ وَيُدْرَأُ الْحَدُّ عَنْهَا فِي نَوْعَيْ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا فِعْلُ الزِّنَا بَلْ الْمَوْجُودُ هُوَ التَّمْكِينُ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَلِيلَ الرِّضَا بِالْإِكْرَاهِ فَيُدْرَأُ عَنْهَا الْحَدُّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا.
، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُخَيَّرًا فِيهِ بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَحَدِ فِعْلَيْنِ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ مُعَيَّنٍ، فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ- أَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الْآخِرَةِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِبَاحَةِ وَالرُّخْصَةِ وَالْحُرْمَةِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا يَخْتَلِفُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَالْمُرَخَّصِ أَنَّهُ يَبْطُلُ حُكْمُ الرُّخْصَةِ أَعْنِي بِهِ أَنَّ كُلَّ مَا يُبَاحُ حَالَةَ التَّعْيِينِ يُبَاحُ حَالَةَ التَّخْيِيرِ، وَكُلُّ مَا لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّعْيِينِ لَا يُبَاحُ وَلَا يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّخْيِيرِ، وَكُلُّ مَا يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّعْيِينِ يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّخْيِيرِ إلَّا إذَا كَانَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْمُبَاحِ وَبَيْنَ الْمُرَخَّصِ، وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ مَيْتَةٍ أَوْ قَتْلِ مُسْلِمٍ يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ وَلَا يُرَخَّصُ لَهُ الْقَتْلُ، وَكَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ مَيْتَةٍ أَوْ أَكْلِ مَا لَا يُبَاحُ، وَلَا يُرَخَّصُ حَالَةَ التَّعْيِينِ مِنْ قَطْعِ الْيَدِ وَشَتْمِ الْمُسْلِمِ وَالزِّنَا يُبَاحُ لَهُ الْأَكْلُ وَلَا يُبَاحُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا يُرَخَّصُ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ، وَلَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَكْلِ حَتَّى قُتِلَ يَأْثَمُ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ وَالزِّنَا لَا يُرَخَّصُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ أَحَدَهُمَا، وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْهُمَا لَا يَأْثَمُ إذَا قُتِلَ بَلْ يُثَابُ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الْإِتْلَافِ لِمَالِ إنْسَانٍ رُخِّصَ لَهُ الْإِتْلَافُ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ أَحَدَهُمَا حَتَّى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ بَلْ يُثَابُ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ، وَكَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ إنْسَانٍ وَإِتْلَافِ مَالِ نَفْسِهِ يُرَخَّصُ لَهُ الْإِتْلَافُ دُونَ الْقَتْلِ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ، وَلَوْ امْتَنَعَ عَنْهُمَا حَتَّى قُتِلَ لَا يَأْثَمُ، وَكَذَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الْكُفْرِ يُرَخَّصُ لَهُ أَنْ يُجْرِيَ كَلِمَةَ الْكُفْرِ إذَا كَانَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ وَلَا يُرَخَّصُ لَهُ الْقَتْلُ، وَلَوْ امْتَنَعَ حَتَّى قُتِلَ فَهُوَ مَأْجُورٌ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ مَيْتَةٍ أَوْ الْكُفْرِ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا الْفَصْلُ فِي الْكِتَابِ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُرَخَّصَ لَهُ كَلِمَةُ الْكُفْرِ أَصْلًا كَمَا لَا يُرَخَّصُ لَهُ الْقَتْلُ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِي إجْرَاءِ الْكَلِمَةِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَيُمْكِنُهُ دَفْعُ الضَّرُورَةِ بِالْمُبَاحِ الْمُطْلَقِ وَهُوَ الْأَكْلُ فَكَانَ إجْرَاءُ الْكَلِمَةِ حَاصِلًا بِاخْتِيَارِهِ مُطْلَقًا فَلَا يُرَخَّصُ لَهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَأَمَّا الْحُكْمُ الَّذِي يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا فَقَدْ يَخْتَلِفُ بِالتَّخْيِيرِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ أَوْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فَلَمْ يَأْكُلْ وَقَتَلَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعَ الضَّرُورَةِ بِتَنَاوُلِ الْمُبَاحِ فَكَانَ الْقَتْلُ حَاصِلًا بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَيُؤَاخَذُ بِالْقِصَاصِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الْكُفْرِ فَلَمْ يَأْتِ بِالْكَلِمَةِ وَقَتَلَ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ فِي الْقَتْلِ حَيْثُ آثَرَ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُرَخَّصِ فِيهِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا أَنَّ لَفْظَ الْكُفْرِ مُرَخَّصٌ لَهُ مِنْهُمْ مَنْ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَالِمًا، وَمَعَ ذَلِكَ تَرَكَهُ وَقَتَلَ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهَا مَخْرَجَ الشَّرْطِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجِبُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ أَمْرَ هَذَا الرَّجُلِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الْكُفْرِ عَلَى اللِّسَانِ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الْقَتْلِ فَأَوْرَثَ شُبْهَةَ الرُّخْصَةِ فِي الْقَتْلِ، وَالْقِصَاصُ لَا يَجِبُ مَعَ الشُّبُهَاتِ حَتَّى لَوْ كَانَ عَالِمًا يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَ بَعْضِهِمْ؛ لِانْعِدَامِ الظَّنِّ الْمُورِثِ لِلشُّبْهَةِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا يَجِبُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ عَلِمَ بِالرُّخْصَةِ فَقَدْ اسْتَعْظَمَ حَرْفَ الْكُفْرِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ فَجُعِلَ اسْتِعْظَامُهُ شُبْهَةً دَارِئَةً لِلْقِصَاصِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَإِنَّمَا وَجَبَ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ لَا عَلَى الْعَاقِلَةِ؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ.
(وَقَالَ) عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا» وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْقَتْلِ أَوْ الزِّنَا فَزَنَا الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُدْرَأُ عَنْهُ لِمَا مَرَّ، وَلَوْ قَتَلَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُكْرَهِ، وَلَكِنَّهُ يُؤَدَّبُ بِالْحَبْسِ وَالتَّعْزِيرِ وَيُقْتَصُّ مِنْ الْمُكْرِهِ كَمَا فِي حَالَةِ التَّعْيِينِ عَلَى مَا مَرَّ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْحِسِّيَّةِ.
فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَنَقُولُ- وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ- التَّصَرُّفَاتُ الشَّرْعِيَّةُ فِي الْأَصْلِ نَوْعَانِ: إنْشَاءٌ وَإِقْرَارٌ، وَالْإِنْشَاءُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَنَوْعٌ يَحْتَمِلُهُ أَمَّا الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالرَّجْعَةُ وَالنِّكَاحُ وَالْيَمِينُ وَالنَّذْرُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَالْفَيْءُ فِي الْإِيلَاءِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ جَائِزَةٌ مَعَ الْإِكْرَاهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- لَا تَجُوزُ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «عَفَوْت عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ كُلِّ مَا اُسْتُكْرِهَ عَلَيْهِ عَفْوًا، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ إلَى مَا وُضِعَ لَهُ التَّصَرُّفُ شَرْطُ جَوَازِهِ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ، وَهَذَا الشَّرْطُ يَفُوتُ بِالْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَا يَقْصِدُ بِالتَّصَرُّفِ مَا وُضِعَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ دَفْعَ مَضَرَّةِ السَّيْفِ عَنْ نَفْسِهِ.
(وَلَنَا) أَنَّ عُمُومَاتِ النُّصُوصِ وَإِطْلَاقَهَا يَقْتَضِي شَرْعِيَّةَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَتَقْيِيدٍ.
(أَمَّا) الطَّلَاقُ فَلِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ» وَلِأَنَّ الْفَائِتَ بِالْإِكْرَاهِ لَيْسَ إلَّا الرِّضَا طَبْعًا، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّ طَلَاقَ الْهَازِلِ وَاقِعٌ وَلَيْسَ بِرَاضٍ بِهِ طَبْعًا، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ قَدْ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ الْفَائِقَةَ حُسْنًا وَجَمَالًا الرَّائِقَةَ تَغَنُّجًا وَدَلَالًا لِخَلَلٍ فِي دِينِهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَرْضَى بِهِ طَبْعًا وَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا.
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ إنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا حَدِيثِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ، وَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ ظَاهِرًا يَوْمَئِذٍ وَكَانَ يَجْرِي عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ كَلِمَاتُ الْكُفْرِ خَطَأً وَسَهْوًا، فَعَفَا اللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ عَنْ ذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا أَنَّا نَقُولُ بِمُوجَبِ الْحَدِيثِ أَنَّ كُلَّ مُسْتَكْرَهٍ عَلَيْهِ مَعْفُوٌّ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَكِنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ وَكُلَّ تَصَرُّفٍ قَوْلِيٍّ مُسْتَكْرَهٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْمَلُ عَلَى الْأَقْوَالِ كَمَا يَعْمَلُ عَلَى الِاعْتِقَادَاتِ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِ لِسَانِ غَيْرِهِ بِالْكَلَامِ عَلَى تَغْيِيرِ مَا يَعْتَقِدُهُ بِقَلْبِهِ جَبْرًا فَكَانَ كُلُّ مُتَكَلِّمٍ مُخْتَارًا فِيمَا يَتَكَلَّمُ بِهِ فَلَا يَكُونُ مُسْتَكْرَهًا عَلَيْهِ حَقِيقَةً فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ.
وَقَوْلُهُ الْقَصْدُ إلَى مَا وُضِعَ لَهُ التَّصَرُّفُ بِشَرْطِ اعْتِبَارِ التَّصَرُّفِ قُلْنَا: هَذَا بَاطِلٌ بِطَلَاقِ الْهَازِلِ ثُمَّ إنْ كَانَ شَرْطًا فَهُوَ مَوْجُودٌ هَاهُنَا؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ دَفْعَ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ إلَّا بِالْقَصْدِ إلَى مَا وُضِعَ لَهُ فَكَانَ قَاصِدًا إلَيْهِ ضَرُورَةً ثُمَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أُكْرِهَ عَلَى تَنْجِيزِ الطَّلَاقِ أَوْ عَلَى تَعْلِيقِهِ بِشَرْطٍ أَوْ عَلَى تَحْصِيلِ الشَّرْطِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَحُكْمُ الْجَوَازِ لَا يَخْتَلِفُ فِي نَوْعَيْ التَّنْجِيزِ وَالتَّعْلِيقِ، وَحُكْمُ الضَّمَانِ يَتَّفِقُ مَرَّةً وَيَخْتَلِفُ أُخْرَى، وَسَنَذْكُرُ تَفْصِيلَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي فَصْلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ هَاهُنَا حُكْمَ جَوَازِ التَّطْلِيقِ الْمُنَجَّزِ فَنَقُولُ إذَا جَازَ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا يَجِبُ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَفْرُوضِ إنْ كَانَ الْمَهْرُ مَفْرُوضًا وَالْمُتْعَةُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَفْرُوضًا؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمُ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي دَفَعَهُ إلَى مُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ وَهُوَ الطَّلَاقُ فَكَانَ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا يَجْبُ عَلَيْهِ كَمَالُ الْمَهْرِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَتَأَكَّدُ بِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَهُوَ الَّذِي اسْتَوْفَى الْمُبْدَلَ بِاخْتِيَارِهِ فَعَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا لَا سَبِيلَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخِلُّ بِاخْتِيَارِ الْمُكْرَهِ أَصْلًا عَلَى مَا مَرَّ هَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الطَّلَاقِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالطَّلَاقِ فَفَعَلَهُ الْوَكِيلُ فَحُكْمُهُ يُذْكَرُ فِي فَصْلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِعْتَاقِ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى-.
وَأَمَّا الْعَتَاقُ فَلِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ: اعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ فَقَالَ: أَوَلَيْسَا وَاحِدًا؟ فَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا»، وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا النَّدْبُ إلَى الْإِعْتَاقِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْمُكْرَهِ وَالطَّائِعِ، وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ كَالطَّلَاقِ ثُمَّ لَا يَخْلُو.
إمَّا أَنْ كَانَ عَلَى تَنْجِيزِ الْعِتْقِ بِشَرْطٍ أَوْ عَلَى شَرْطِ الْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ بِهِ أَمَّا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى تَنْجِيزِ الْعِتْقِ فَأَعْتَقَ يَضْمَنُ الْمُكْرِهُ قِيمَةَ الْعَبْدِ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا، وَلَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ وَالْوَلَاءُ لِمَوْلَاهُ، أَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ آدَمِيٌّ هُوَ مَالٌ، وَالْإِعْتَاقُ إتْلَافُ الْمَالِيَّةِ، وَالْأَمْوَالُ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُكْرِهِ بِالْإِتْلَافِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَيَسْتَوِي فِيهِ يَسَارُهُ وَإِعْسَارُهُ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَبْدِ بِالضَّمَانِ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ مِنْهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا مَعْنَى لِلرُّجُوعِ إلَى غَيْرِهِ وَالْوَلَاءُ لَلْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَلَامٌ مُضَافٌ إلَى الْمُكْرِهِ لِاسْتِحَالَةِ وُرُودِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْأَقْوَالِ فَكَانَ الْوَلَاءُ لَهُ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ إنَّمَا يُسْتَسْعَى إمَّا لِتَخْرِيجِهِ إلَى الْعِتْقِ تَكْمِيلًا لَهُ، وَإِمَّا لِتَعْلِيقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ، وَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّكْمِيلِ، وَكَذَا لَا حَقَّ لِأَحَدٍ تَعَلَّقَ بِهِ فَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى شِرَاءِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ عَتَقَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ بِالنَّصِّ وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْإِعْتَاقِ لَكِنْ لَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ هاهنا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ عِوَضٌ وَهُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأُكْرِهَ أَحَدُهُمَا عَلَى إعْتَاقِهِ فَأَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ، لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْإِعْتَاقِ لَكِنْ يُعْتَقُ نِصْفُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ.
وَلَا يَضْمَنُ الشَّرِيكُ الْمُكْرَهُ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ نَصِيبَهُ، وَلَكِنْ يَضْمَنُ الْمُكْرِهُ نَصِيبَ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ حَيْثُ هُوَ إتْلَافُ الْمَالِ مُضَافٌ إلَى الْمُكْرِهِ فَكَانَ الْمُتْلِفُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى هُوَ الْمُكْرِهُ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، وَهَذَا بِخِلَافِ حَالَةِ الِاخْتِيَارِ إذَا أَعْتَقَهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ السَّاكِتِ إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا وَهَاهُنَا يَضْمَنُ مُوسِرًا كَانَ أَوْ مُعْسِرًا؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُكْرَهِ ضَمَانُ إتْلَافٍ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْأَصْلُ أَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، فَالْوَاجِبُ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ لَيْسَ بِضَمَانِ إتْلَافٍ؛ لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ مِنْهُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ.
وَأَمَّا عَلَى أَصْلِهِمَا فَإِنْ عَتَقَ لَكِنْ لَا بِإِعْتَاقِهِ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ عَتَقَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ عِنْدَ تَصَرُّفِهِ لَا بِتَصَرُّفِهِ فَلَا يَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَوَقَعَ فِيهَا غَيْرُهُ أَوْ سَقَى أَرْضَ نَفْسِهِ فَفَسَدَتْ أَرْضُ غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ إلَّا أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ حَالَةَ الِاخْتِيَارِ عُرِفَ شَرْعًا.
وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهِ عَلَى الْمُوسِرِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ الشَّرْعِ، وَشَرِيكُ الْمُكْرَهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ، وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَهُ، وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَاهُ مُعْسِرًا كَانَ الْمُكْرَهُ أَوْ مُوسِرًا، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ إنْ كَانَ مُوسِرًا، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُكْرِهِ فَالْوَلَاءُ بَيْنَ الْمُكْرِهِ وَالْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُ انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَيْهِ بِاخْتِيَارِ طَرِيقِ الضَّمَانِ، وَإِنْ اخْتَارَ الْإِعْتَاقَ أَوْ السِّعَايَةَ فَالْوَلَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا إنْ كَانَ الْمُكْرِهُ مُوسِرًا فَلِشَرِيكِ الْمُكْرَهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ لَا غَيْرُ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَهُ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ لَا غَيْرُ كَمَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَمَوْضِعُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا بَعْضَ مَا يَخْتَصُّ بِالْإِكْرَاهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ.
(وَأَمَّا) التَّدْبِيرُ فَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَحْرِيرٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ» وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ إلَّا أَنَّهُ لِلْحَالِ تَحْرِيرٌ مِنْ وَجْهٍ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يَمْنَعُ نَفَاذَ التَّحْرِيرِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يَمْنَعُ نَفَاذَ التَّحْرِيرِ مِنْ وَجْهٍ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، وَيَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ لِلْحَالِ بِمَا نَقَصَهُ التَّدْبِيرُ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ يَرْجِعُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِبَقِيَّةِ قِيمَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لِلْحَالِ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ، فَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى التَّدْبِيرِ إتْلَافًا لِمَالِ الْمُكْرِهِ لِلْحَالِ مِنْ وَجْهٍ فَيَضْمَنُ بِقَدْرِهِ مِنْ النُّقْصَانِ ثُمَّ يَتَكَامَلُ الْإِتْلَافُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَيَتَكَامَلُ الضَّمَانُ عِنْدَ ذَلِكَ، وَذَلِكَ بَقِيَّةُ قِيمَتِهِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُكْرَهُ صَارَ ذَلِكَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ هَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى تَنْجِيزِ الْعِتْقِ.
، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِشَرْطٍ، أَمَّا حُكْمُ الْجَوَازِ فَلَا يَخْتَلِفُ فِي النَّوْعَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَقَدْ يَخْتَلِفُ بَيَانُ ذَلِكَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِفِعْلِ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ فِعْلًا لابد مِنْهُ بِأَنْ كَانَ مَفْرُوضًا عَلَيْهِ أَوْ يَخَافُ مِنْ تَرْكِهِ الْهَلَاكَ عَلَى نَفْسِهِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَفَعَلَهُ حَتَّى عَتَقَ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِفِعْلٍ لابد لَهُ مِنْهُ إكْرَاهٌ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنْ كَانَ فِعْلًا لَهُ مِنْهُ بُدٌّ كَتَقَاضِي دَيْنِ الْغَرِيمِ أَوْ تَنَاوُلِ شَيْءٍ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ فَفَعَلَ حَتَّى عَتَقَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ لَا يَكُونُ مُضْطَرًّا إلَى تَحْصِيلِهِ إذْ لَا يَلْحَقُهُ بِتَرْكِهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ فَأَشْبَهَ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ فَلَا يَكُونُ الْإِكْرَاهُ عَلَى تَعْلِيقِ الْعِتْقِ إكْرَاهًا عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ تَلَفُ الْمَالِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَقُولَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُهُ فَهُوَ حُرٌّ فَقَالَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَلَكَ مَمْلُوكًا حَتَّى عَتَقَ عَلَيْهِ، فَإِنْ مَلَكَ بِشِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَيَقْطَعُ إضَافَةَ إكْرَاهِ الْإِتْلَافِ إلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنْ مَلَكَ بِإِرْثٍ فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْمُكْرَهِ فِي الْإِرْثِ فَبَقِيَ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: إنْ شِئْت فَأَنْتَ حُرٌّ فَقَالَ: شِئْت حَتَّى عَتَقَ ضَمِنَ الْمُكْرِهُ؛ لِأَنَّ مَشِيئَةَ الْعَبْدِ الْعِتْقَ تُوجَدُ غَالِبًا فَأَشْبَهَ التَّعْلِيقُ بِفِعْلٍ لابد مِنْهُ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ إكْرَاهًا عَلَيْهِ هَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى تَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ.
، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى تَحْصِيلِ الشَّرْطِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الْعِتْقُ عَنْ طَوْعٍ بِأَنْ قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدٍ: إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَأُكْرِهَ عَلَى الشِّرَاءِ فَاشْتَرَاهُ حَتَّى عَتَقَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَثْبُتْ بِالشَّرْطِ وَهُوَ الشِّرَاءُ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ وَهُوَ طَائِعٌ فِيهِ، وَكَذَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأُكْرِهَ عَلَى الدُّخُولِ حَتَّى عَتَقَ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنَّمَا يَضْمَنُ الْمُكْرَهُ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا، فَأَمَّا إذَا كَانَ نَاقِصًا فَلَا ضَمَانَ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَقْطَعُ الْإِضَافَةَ عَنْ الْمُكْرَهِ بِوَجْهٍ فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِعْتَاقِ الْمُطْلَقِ عَيْنًا.
، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى أَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ أَوْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ أَحَدَهُمَا غَرِمَ الْمُكْرِهُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ نِصْفِ مَهْرِ الْمَرْأَةِ، أَمَّا إذَا فَعَلَ أَقَلَّهُمَا ضَمَانًا فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ، وَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ أَكْثَرَهُمَا ضَمَانًا؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعَ الضَّرُورَةِ بِأَقَلِّ الْفِعْلَيْنِ ضَمَانًا فَإِذَا فَعَلَ أَكْثَرَهُمَا ضَمَانًا كَانَ مُخْتَارًا فِي الزِّيَادَةِ؛ لِانْعِدَامِ الِاضْطِرَارِ فِي هَذَا الْقَدْرِ فَلَا يَكُونُ تَلَفُ هَذَا الْقَدْرِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ أَحَدَهُمَا لَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرِهِ أَمَّا إذَا طَلَّقَ فَظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ قَبْلُ، وَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنَهُ دَفْعُ الضَّرُورَةِ بِمَا لَا يَتَعَلَّقُ فِيهِ ضَمَانٌ أَصْلًا وَهُوَ الطَّلَاقُ فَكَانَ مُخْتَارًا فِي الْإِعْتَاقِ فَلَا يَكُونُ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَلَا يَضْمَنُ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا.
وَلَكِنَّ الْإِكْرَاهَ نَاقِصٌ فَفَعَلَ الْمُكْرَهُ أَحَدَهُمَا لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يَقْطَعُ إضَافَةَ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ بِهِ فَكَانَ مُخْتَارًا مُطْلَقًا فِيهِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْمُكْرِهُ هَذَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الْإِعْتَاقِ، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ فَوَكَّلَ غَيْرَهُ بِهِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ، فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ التَّوْكِيلُ وَلَا يَجُوزُ إعْتَاقُ الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَصَرُّفٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ؛ وَلِهَذَا يُبْطِلُهُ الْهَزْلُ كَالْبَيْعِ فَلَا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ كَمَا لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِعْتَاقِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْهَزْلَ فَنَعَمْ لَكِنَّهُ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ كَمَا لَا يَعْمَلُ عَلَى الْإِعْتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَغَيْرِهِمَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلْمُبَادَلَةِ حَقِيقَةً، وَحَقِيقَةُ الْمُبَادَلَةِ بِالتَّعَاطِي، وَإِنَّمَا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ دَلِيلٌ عَلَيْهِ حَالَةَ الطَّوْعِ فَيَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ، عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- وَإِذَا نَفَذَ إعْتَاقُ الْوَكِيلِ يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ اسْتِحْسَانًا.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَرْجِعَ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ مِنْ الْمُكْرِهِ الْإِكْرَاهُ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ لَا عَلَى الْإِعْتَاقِ، وَإِنَّمَا الْإِعْتَاقُ حَصَلَ بِاخْتِيَارِ الْوَكِيلِ وَرِضَاهُ فَلَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ كَشُهُودِ التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ إذَا رَجَعُوا لَا يَضْمَنُونَ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْوَكَالَةِ بِالْإِعْتَاقِ كَذَا هاهنا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْإِعْتَاقِ إكْرَاهٌ عَلَى الْإِعْتَاقِ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَكَّلَ بِالْإِعْتَاقِ مَلَكَ الْوَكِيلُ إعْتَاقَهُ عَقِيبَ التَّوْكِيلِ بِلَا فَصْلٍ فَيَعْتِقُهُ فَيَتْلَفُ مَالُهُ، فَكَانَ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَيُؤَاخَذُ بِضَمَانِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ؛ لِأَنَّهُ فَعَلَ بِأَمْرِهِ أَمْرًا صَحِيحًا، وَإِنْ كَانَ الْإِكْرَاهُ نَاقِصًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ لِمَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَأَمَّا النِّكَاحُ فَلِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وَغَيْرِهِ مِنْ عُمُومَاتِ النِّكَاحِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ثُمَّ إذَا جَازَ النِّكَاحُ مَعَ الْإِكْرَاهِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ أُكْرِهَ الزَّوْجُ أَوْ الْمَرْأَةُ، فَإِنْ أُكْرِهَ الزَّوْجُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ مِقْدَارَ مَهْرِ الْمِثْلِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ يَجِبُ الْمُسَمَّى وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالَهُ حَيْثُ عَوَّضَهُ بِمِثْلِهِ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ جُعِلَتْ أَمْوَالًا مُتَقَوِّمَةً شَرْعًا عِنْدَ دُخُولِهَا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ لِكَوْنِهَا سَبَبًا لِحُصُولِ الْآدَمِيِّ تَعْظِيمًا لِلْآدَمِيِّ وَصِيَانَةً لَهُ عَنْ الِابْتِذَالِ، وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الْإِتْلَافُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ.
وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ يَجِبُ قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَتَبْطُلُ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ تَصِحَّ مَعَ الْإِكْرَاهِ فَبَطَلَتْ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ إلَّا قَدْرُ مَهْرِ الْمِثْلِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ وَقَعَ عَلَى النِّكَاحِ وَعَلَى إيجَابِ الْمَالِ إلَّا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُؤَثِّرُ فِي النِّكَاحِ وَيُؤَثِّرُ فِي إيجَابِ الْمَالِ كَمَا يُؤَثِّرُ فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَصِحَّ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ أَصْلًا إلَّا أَنَّهَا صَحَّتْ فِي قَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ شَرْعًا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَوْ أَبْطَلَ هَذَا الْقَدْرَ لَأَثْبَتَهُ ثَانِيًا فَلَمْ يَكُنْ الْإِبْطَالُ مُفِيدًا فَلَمْ يَبْطُلْ لِئَلَّا يَخْرُجَ الْإِبْطَالُ مَخْرَجَ الْعَيْبِ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي الزِّيَادَةِ فَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهَا هَذَا إذَا أُكْرِهَ الزَّوْجُ عَلَى النِّكَاحِ، فَأَمَّا إذَا أُكْرِهَتْ الْمَرْأَةُ، فَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ قَدْرَ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ جَازَ النِّكَاحُ وَلَزِمَ، وَإِنْ كَانَ الْمُسَمَّى أَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ بِأَنْ أُكْرِهَتْ عَلَى النِّكَاحِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا عَشْرَةُ آلَافٍ فَزَوَّجَهَا أَوْلِيَاؤُهَا وَهُمْ مُكْرَهُونَ جَازَ النِّكَاحُ لِمَا ذَكَرْنَا، وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الْمُكْرِهِ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُكْرِهَ مَا أَتْلَفَ عَلَيْهَا مَالًا؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ بِأَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُتَقَوِّمَةً بِالْعَقْدِ.
وَالْعَقْدُ قَوَّمَهَا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى فَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُكْرِهِ إتْلَافُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ عَلَيْهَا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانُ، وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الشُّهُودِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمُكْرِهِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الشُّهُودِ أَوْلَى، ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كَانَ الزَّوْجُ كُفْئًا فَقَالَ لِلزَّوْجِ: إنْ شِئْت فَكَمِّلْ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا وَإِلَّا فَنُفَرِّقُ بَيْنَكُمَا، فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَ النِّكَاحُ، وَإِنْ أَبَى تَكْمِيلَ مَهْرِ الْمِثْلِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إنْ لَمْ تَرْضَ بِالنُّقْصَانِ؛ لِأَنَّ لَهَا فِي كَمَالِ مَهْرِ مِثْلِهَا حَقًّا؛ لِأَنَّهَا تُعَيَّرُ بِنُقْصَانِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَلْحَقُهَا ضَرَرُ الْعَارِ، وَإِذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَلَوْ رَضِيَتْ بِالنُّقْصَانِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً بِأَنْ دَخَلَ بِهَا عَنْ طَوْعٍ مِنْهَا فَلَهَا الْمُسَمَّى وَبَطَلَ حَقُّهَا فِي التَّفْرِيقِ لَكِنْ بَقِيَ حَقُّ الْأَوْلِيَاءِ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَهُمْ أَنْ يُفَرِّقُوا، وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ التَّفْرِيقِ لِنُقْصَانِ الْمَهْرِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ.
وَلَوْ دَخَلَ بِهَا عَلَى كُرْهٍ مِنْهَا لَزِمَهُ تَكْمِيلُ مَهْرِ الْمِثْلِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَلَالَةُ اخْتِيَارِ التَّكْمِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ كُفْئًا فَلِلْمَرْأَةِ خِيَارُ التَّفْرِيقِ لِانْعِدَامِ الْكَفَاءَةِ وَنُقْصَانِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَيْضًا، وَكَذَا الْأَوْلِيَاءُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- وَعِنْدَهُمَا لَهُمْ خِيَارُ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ إمَّا لَا خِيَارَ لَهُمْ لِنُقْصَانِ مَهْرِ الْمِثْلِ، فَإِنْ سَقَطَ أَحَدُ الْخِيَارَيْنِ عَنْهَا يَبْقَى لَهَا حَقُّ التَّفْرِيقِ لِبَقَاءِ الْخِيَارِ الْآخَرِ، وَإِنْ سَقَطَ الْخِيَارَانِ جَمِيعًا فَلِلْأَوْلِيَاءِ خِيَارُ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَفِي خِيَارِ نُقْصَانِ الْمَهْرِ خِلَافٌ عَلَى مَا عُرِفَ حَتَّى أَنَّ الزَّوْجَ إذَا دَخَلَ بِهَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ عَلَى كُرْهٍ مِنْهَا حَتَّى لَزِمَهُ التَّكْمِيلُ بَطَلَ خِيَارُ النُّقْصَانِ وَبَقِيَ لَهَا عَدَمُ خِيَارِ الْكَفَاءَةِ.
وَلَوْ رَضِيَتْ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ أَيْضًا صَرِيحًا وَدَلَالَةً بِأَنْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ عَلَى طَوْعٍ مِنْهَا سَقَطَ الْخِيَارَانِ جَمِيعًا وَبَطَلَ حَقُّهَا فِي التَّفْرِيقِ أَصْلًا لَكِنْ لِلْأَوْلِيَاءِ الْخِيَارَانِ جَمِيعًا، وَعِنْدَهُمَا أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا لَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مَا جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهِ بَلْ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ.
وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَلِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} عَامًّا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ، وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ بِالْقَوْلِ أَوْ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الْوَطْءُ وَاللَّمْسُ عَنْ شَهْوَةٍ وَالنَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ عَنْ شَهْوَةٍ وَالْإِكْرَاهُ لَا يَعْمَلُ عَلَى النَّوْعَيْنِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْيَمِينُ وَالنَّذْرُ بِأَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُوجِبَ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً أَوْ حَجًّا أَوْ شَيْئًا مِنْ وُجُوهِ الْقُرَبِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ فَلِعُمُومَاتِ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الْأَبْوَابِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ الطَّبَائِعِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ} وَقَالَ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} وَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أَيْ بِالْعُهُودِ، وَلِأَنَّ النَّذْرَ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} وَقَالَ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَكِبْرِيَاؤُهُ: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، وَلِأَنَّ هَذِهِ تَصَرُّفَاتٌ قَوْلِيَّةٌ.
وَقَدْ مَرَّ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْمَلُ عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْفَيْءُ فِي الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الْقَادِرِ بِالْجِمَاعِ وَفِي حَقِّ الْعَاجِزِ بِالْقَوْلِ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي النَّوْعَيْنِ جَمِيعًا فَكَانَ طَائِعًا فِي الْفَيْءِ فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَلَا تَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْكَفَّارَةِ وَالْقُرْبَةِ الْمَنْذُورِ بِهَا عَلَى الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ عَلَى الْمُكْرَهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ، وَكَذَا الْمَنْذُورُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِهَا مُطْلَقٌ عَنْ الْوَقْتِ وَهُمَا مِمَّا لَا يُجْبَرُ عَلَى فِعْلِهِمَا أَيْضًا فَلَوْ وَجَبَ عَلَى الْمُكْرِهِ لَكَانَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ عَلَى الْمُكْرَهِ أَوْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ عَلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُفِيدُ الْمُكْرِهَ شَيْئًا فَلَا مَعْنًى لِرُجُوعِهِ عَلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَغْيِيرِ الْمَشْرُوعِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا جَعْلُ الْمُوَسَّعِ مُضَيَّقًا، وَالثَّانِي جَعْلُ مَا لَا يُجْبَرُ عَلَى فِعْلِهِ مَجْبُورًا عَلَى فِعْلِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ تَغْيِيرٌ وَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُ الْمَشْرُوعِ مِنْ وَجْهٍ فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنْ وَجْهَيْنِ؟ وَكَذَا فِي الْإِيلَاءِ إذَا لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ لَا يَرْجِعُ بِمَا لَزِمَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ تَرْكُ الْقُرْبَانِ وَهُوَ مُخْتَارٌ فِي تَرْكِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْرَبَهَا فِي الْمُدَّةِ حَتَّى لَا تَبِينَ فَلَا يَلْزَمُهُ فَإِذَا لَمْ يَقْرَبْ كَانَ تَرْكُ الْقُرْبَانِ حَاصِلًا بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ بِفِعْلِهِ.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَعْتِقَ عَبْدَهُ عَنْ ظِهَارِهِ يُنْظَرُ إنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ عَبْدٍ وَسَطٍ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ بِفِعْلِهِ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ ذَلِكَ الْقَدْرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى عَبْدٍ وَسَطٍ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِالظِّهَارِ وَلَا تَجْزِيهِ عَنْ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّهُ إعْتَاقٌ دَخَلَهُ عِوَضٌ وَالْإِعْتَاقُ بِعِوَضٍ، وَإِنْ قَلَّ لَا يَجْزِي عَنْ التَّكْفِيرِ.
وَأَمَّا الْعَفْوُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ فَلِعُمُومَاتِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} وَلِقَوْلِهِ بِهِ أَيْ بِالْقِصَاصِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِ وَالتَّصَدُّقُ بِالْقِصَاصِ هُوَ الْعَفْوُ وَقَوْلِهِ عَزَّ شَأْنُهُ: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} فَقَدْ نَدَبَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَى الْعَفْوِ عَامًّا، وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ قَوْلِيٌّ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إتْلَافُ الْمَالِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْعَفْوِ إذَا رَجَعُوا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَالْهِبَةُ وَالْإِجَارَةُ وَنَحْوُهَا فَالْإِكْرَاهُ يُوجِبُ فَسَادَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَعِنْدَ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يُوجِبُ تَوَقُّفَهَا عَلَى الْإِجَازَةِ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- يُوجِبُ بُطْلَانَهَا أَصْلًا (وَوَجْهُ) قَوْلِهِمَا أَنَّ الرِّضَا شَرْطُ الْبَيْعِ شَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وَالْإِكْرَاهُ يَسْلُبُ الرِّضَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَجَازَ الْمَالِكُ يَجُوزُ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِالْإِجَازَةِ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ فَأَشْبَهَ بَيْعَ الْفُضُولِيِّ، وَهَذِهِ شُبْهَةُ زُفَرَ- رَحِمَهُ اللَّهُ-.
(وَلَنَا) ظَوَاهِرُ نُصُوصِ الْبَيْعِ عَامًّا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَتَقْيِيدٍ، وَلِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ وَهُوَ الْمُبَادَلَةُ صَدَرَ مُطْلَقًا مِنْ أَهْلِ الْبَيْعِ فِي مَحَلٍّ وَهُوَ مَالُ مَمْلُوكِ الْبَائِعِ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ عِنْدَ التَّسْلِيمِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ، وَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ الْمُفْسِدَ هُنَاكَ لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ أَوْ الرِّبَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهُنَا الْفَاسِدُ لِعَدَمِ الرِّضَا طَبْعًا فَكَانَ الرِّضَا طَبْعًا شَرْطَ الصِّحَّةِ لَا شَرْطَ الْحُكْمِ، وَانْعِدَامُ شَرْطِ الصِّحَّةِ لَا يُوجِبُ انْعِدَامَ الْحُكْمِ كَمَا فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ إلَّا أَنَّ سَائِرَ الْبِيَاعَاتِ لَا تَلْحَقُهَا الْإِجَازَةُ؛ لِأَنَّ فَسَادَهَا لَحِقَ الشَّرْعَ مِنْ حُرْمَةِ الرِّبَا وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَا يَزُولُ بِرِضَا الْعَبْدِ، وَهُنَا الْفَسَادُ لَحِقَ الْعَبْدَ وَهُوَ عَدَمُ رِضَاهُ فَيَزُولُ بِإِجَازَتِهِ وَرِضَاهُ، وَإِذَا فَسَدَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ بِالْإِكْرَاهِ فلابد مِنْ بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِ أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
إمَّا إنْ كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْبَائِعُ وَإِمَّا أَنْ كَانَ هُوَ الْمُشْتَرِيَ.
وَإِمَّا أَنْ كَانَا جَمِيعًا مُكْرَهَيْنِ، فَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْبَائِعُ فَلَا يَخْلُو الْأَمْرُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ طَائِعًا فِي التَّسْلِيمِ وَإِمَّا إنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ طَائِعًا فِي التَّسْلِيمِ فَبَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ طَائِعًا جَازَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِلْمُبَادَلَةِ فَإِذَا سَلَّمَ طَائِعًا فَقَدْ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْبَيْعِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَجُوزُ بِطَرِيقِ التَّعَاطِي، فَكَانَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ لَفْظِ الْبَيْعِ بِالْإِكْرَاهِ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَكُونُ التَّسْلِيمُ مِنْهُ طَائِعًا إجَازَةً لِذَلِكَ الْبَيْعِ بَلْ يَكُونُ هَذَا بَيْعًا مُبْتَدَأً بِطَرِيقِ التَّعَاطِي.
وَالثَّانِي: أَنَّ التَّسْلِيمَ مِنْهُ إجَازَةٌ لِذَلِكَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْبَيْعِ صِحَّةُ التَّسْلِيمِ حَتَّى يَكُونَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ إكْرَاهًا عَلَى مَا لَا صِحَّةَ لَهُ بِدُونِهِ إذْ الْبَيْعُ يَصِحُّ بِدُونِ التَّسْلِيمِ فَكَانَ طَائِعًا فِي التَّسْلِيمِ فَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِلْإِجَازَةِ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ إذَا سَلَّمَ طَائِعًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَلَا يَكُونُ التَّسْلِيمُ إجَازَةً؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَصِحَّانِ بِدُونِ الْقَبْضِ فَكَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَيْهِمَا إكْرَاهًا عَلَى الْقَبْضِ فَلَمْ يَصِحَّ التَّسْلِيمُ دَلِيلًا عَلَى الْإِجَازَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ هَذَا إذَا كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ طَائِعًا فِي التَّسْلِيمِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُكْرَهًا عَلَيْهِمَا جَمِيعًا فَبَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ هُوَ الْمُبَادَلَةُ، وَالْإِكْرَاهُ يُؤَثِّرُ فِيهَا بِالْفَسَادِ وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا حَتَّى لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ، وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ بِالْإِعْتَاقِ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْفَسْخُ إذْ الْإِعْتَاقُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَتَقَرَّرَ الْهَلَاكُ فَتَقَرَّرَتْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ كَالْبَائِعِ.
وَالْمُكْرَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُكْرِهِ بِقِيمَتِهِ ثُمَّ الْمُكْرِهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَمَّا حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُكْرِهِ فَلِأَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالَهُ بِإِزَالَةِ يَدِهِ عَنْهُ فَأَشْبَهَ الْغَاصِبَ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ مَا أَتْلَفَهُ كَالْغَاصِبِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ.
وَأَمَّا حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَلِلْمَالِكِ وِلَايَةُ تَضْمِينِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ كَذَا هَذَا، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَالْإِعْتَاقُ لَا يَنْفُذُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ، فَإِنْ أَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ نَفَذَ الْبَيْعُ وَلَمْ يَنْفُذْ الْإِعْتَاقُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْإِجَازَةِ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ فِي حُكْمِ الْإِنْشَاءِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: إنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ السَّابِقِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَالْمُسْتَنِدُ مُقْتَصِرٌ مِنْ وَجْهٍ ظَاهِرٌ مِنْ وَجْهٍ فَجَازَ أَنْ لَا يَظْهَرَ فِي حَقِّ الْمُعَلَّقِ بَلْ يُقْتَصَرَ، وَلِلْبَائِعِ خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فِي هَذَا الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ.
وَإِنْ ثَبَتَ بَعْدَ الْقَبْضِ لَكِنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَجْلِ الْفَسَادِ فَيَثْبُتُ لَهُ خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ دَفْعًا لِلْفَسَادِ.
وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلَهُ حَقُّ الْفَسْخِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ بَعْدَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِي الشِّرَاءِ فَكَانَ لَازِمًا فِي جَانِبِهِ لَكِنْ إنَّمَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ فَسْخَ هَذَا الْعَقْدِ إذَا كَانَ بِمَحَلِّ الْفَسْخِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ وَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ، وَإِنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكَفَالَةِ وَنَحْوِهَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ، فَإِنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْفَسْخِ أَيَّ تَصَرُّفٍ كَانَ.
(وَوَجْهُ) الْفَرْقِ أَنَّ حَقَّ الْفَسْخِ هُنَاكَ ثَبَتَ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَمْلُوكِ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالْجَهَالَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بِزَوَالِ الْمَمْلُوكِ عَنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ، فَلَمَّا ثَبَتَ حَقُّ الْفَسْخِ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الْمَالِكِ وَهُوَ كَرَاهَتُهُ وَفَوَاتُ رِضَاهُ وَأَنَّهُ قَائِمٌ، فَكَانَ حَقُّ الْفَسْخِ ثَابِتًا، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي حَتَّى تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعُقُودَ كُلَّهَا لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا إنَّمَا يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ إلَّا إذَا كَانَ بِمَحَلِّ الْإِجَازَةِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِأَنْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا تَجُوزُ إجَازَتُهُ حَتَّى لَا يَجِبَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي بَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْمَحَلِّ وَقْتَ الْإِجَازَةِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ فِي الْمَحَلِّ ثُمَّ يُسْتَنَدُ، وَالْهَالِكُ لَا يَحْتَمِلُ الْمِلْكَ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ، وَالْمَحَلُّ بِالْإِعْتَاقِ صَارَ فِي حُكْمِ الْهَالِكِ وَتَقَرَّرَ هَلَاكُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيَتَقَرَّرُ عَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَتُهُ، وَإِنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ يَمْلِكْ الْإِجَازَةَ، وَإِنْ تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي.
وَإِذَا أَجَازَ وَاحِدًا مِنْ الْعُقُودِ جَازَتْ الْعُقُودُ كُلُّهَا مَا بَعْدَ هَذَا الْعَقْدِ، وَمَا قَبْلَهُ أَيْضًا بِخِلَافِ الْغَاصِبِ إذَا بَاعَ الْمَغْصُوبَ ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي هَكَذَا حَتَّى تَدَاوَلَتْهُ الْأَيْدِي وَتَوَقَّفَتْ الْعُقُودُ كُلُّهَا، فَأَجَازَ الْمَالِكُ وَاحِدًا مِنْهَا إنَّمَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ الْعَقْدُ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ، وَلَوْ لَمْ يُجِزْ الْمَالِكُ شَيْئًا مِنْ الْعُقُودِ، وَلَكِنَّهُ ضَمِنَ وَاحِدًا مِنْهُمْ يَجُوزُ مَا بَعْدَ عَقْدِهِ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي بَابِ الْغَصْبِ لَمْ يَنْفُذْ شَيْءٌ مِنْ الْعُقُودِ بَلْ تَوَقَّفَ نَفَاذُ الْكُلِّ عَلَى الْإِجَازَةِ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ شَرْطَ النَّفَاذِ فَيَنْفُذُ مَا لَحِقَهُ الشَّرْطُ دُونَ غَيْرِهِ أَمَّا هاهنا فَالْعُقُودُ مَا تَوَقَّفَ نَفَاذُهَا عَلَى الْإِجَازَةِ لِوُقُوعِهَا نَافِذَةً قَبْلَ الْإِجَازَةِ إذْ الْفَسَادُ لَا يَمْنَعُ النَّفَاذَ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ إزَالَةَ الْإِكْرَاهِ مِنْ الْأَصْلِ، وَمَتَى جَازَ الْإِكْرَاهُ مِنْ الْأَصْلِ جَازَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ فَتَجُوزُ الْعُقُودُ كُلُّهَا فَهُوَ الْفَرْقُ وَبِخِلَافِ مَا إذَا ضَمِنَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَحَدَهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَغْصُوبَ عِنْدَ اخْتِيَارِ أَخْذِ الضَّمَانِ مِنْهُ مِنْ وَقْتِ جِنَايَتِهِ وَهُوَ الْقَبْضُ إمَّا بِطَرِيقِ الظُّهُورِ وَإِمَّا بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ فَلَا يَظْهَرُ فِيمَا قَبْلَهُ مِنْ الْعُقُودِ، وَهَاهُنَا بِخِلَافِهِ عَلَى مَا مَرَّ.
وَإِذَا قَالَ الْبَائِعُ: أَجَزْت جَازَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ هُوَ الْإِكْرَاهُ، وَالْإِجَازَةُ إزَالَةُ الْإِكْرَاهِ، وَكَذَا إذَا قَبَضَ الثَّمَنَ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ كَالْفُضُولِيِّ إذَا بَاعَ مَالَ غَيْرِهِ فَقَبَضَ الْمَالِكُ الثَّمَنَ، وَلَوْ لَمْ يَعْتِقْهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ وَلَكِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْإِجَازَةِ نَفَذَ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ ثَابِتٌ لَهُ بِالشِّرَاءِ وَسَوَاءٌ كَانَ قَبَضَ الْعَبْدَ أَوْ لَا؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ صَحِيحٌ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ بَلْ بِوَاسِطَةِ الْقَبْضِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي الْأَخِيرُ ثُمَّ أَجَازَ الْبَائِعُ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ لَمْ تَجُزْ إجَازَتُهُ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُطَالَبَةَ بِالثَّمَنِ بَلْ تَجِبُ الْقِيمَةُ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُكْرِهِ، وَالْمُكْرِهُ يَرْجِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ.
وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ أَيَّهُمَا كَانَ، أَمَّا الرُّجُوعُ عَلَى الْمُكْرِهِ فَلِمَا ذَكَرْنَا فِي إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مِلْكَهُ مَعْنًى فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ، وَلِلْمُكْرِهِ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَضْمُونَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ، وَكَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ فَكَذَا لَهُ وَيَصِحُّ كُلُّ عَقْدٍ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ الْمُكْرَهُ رَجَعَ عَلَى أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ أَيَّهُمَا شَاءَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بَرِئَ الْمُكْرِهُ وَصَحَّتْ الْبِيَاعَاتِ كُلُّهَا؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ بِاخْتِيَارِ تَضْمِينِهِ فَتُبُيِّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَصَحَّ، فَيَصِحُّ كُلُّ بَيْعٍ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي الْآخَرِ صَحَّ كُلُّ بَيْعٍ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَطَلَ كُلُّ بَيْعٍ كَانَ قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ تَضْمِينَهُ فَقَدْ خَصَّهُ بِمِلْكِ الْمَضْمُونِ فَتُبُيِّنَ أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ كَانَ قَبْلَهُ كَانَ بَيْعُ مَا لَا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ فَبَطَلَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْبَائِعُ.
، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْفَسْخِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ حَقُّ الْفَسْخِ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْبَائِعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِي إكْرَاهِ الْبَائِعِ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُجِيزَ هَذَا الْعَقْدَ كَمَا لِلْبَائِعِ إذَا كَانَ مُكْرَهًا، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ وَدَفَعَ الثَّمَنَ وَالْمُشْتَرَى عَبْدٌ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي فَذَلِكَ إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ وُجُودِهَا فَكَانَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا الْتِزَامًا لِلْمَالِكِ كَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَى أَمَةً فَوَطِئَهَا أَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ فَهُوَ إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نُقِضَ الْبَيْعُ لَتُبُيِّنَ أَنَّ الْوَطْءَ صَادَفَ مِلْكَ الْغَيْرِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ التَّحَرُّزُ عَنْ الْحَرَامِ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَيْهِ الْتِزَامًا لِلْبَيْعِ دَلَالَةً، وَلَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي حَتَّى أَعْتَقَهُ الْبَائِعُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ.
وَإِنْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي نَفَذَ إعْتَاقُهُ اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَنْفُذَ وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مَا لَا يَمْلِكُهُ «وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ» عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(وَجْهُ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ إجَازَةَ هَذَا الْبَيْعِ، فَإِقْدَامُهُ عَلَى الْإِعْتَاقِ إجَازَةٌ لَهُ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ وَهَذَا؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ تَجِبُ صِيَانَتُهُ عَلَى الْإِلْغَاءِ مَا أَمْكَنَ، وَلَا صِحَّةَ لِتَصَرُّفِهِ إلَّا بِالْمِلْكِ وَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا بِالْإِجَازَةِ فَيَقْتَضِي الْإِعْتَاقُ إجَازَةَ هَذَا الْعَقْدِ سَابِقًا عَلَيْهِ أَوْ مُقَارِنًا لَهُ تَصْحِيحًا لَهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَلِهَذَا نَفَذَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ كَذَا هَذَا.
هَذَا إذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ، وَلَوْ أَعْتَقَاهُ جَمِيعًا مَعًا قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِعْتَاقُ الْبَائِعِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ ثَابِتٌ مَقْصُودٌ، وَمِلْكَ الْمُشْتَرِي يَثْبُتُ ضِمْنًا لِلْإِجَازَةِ الثَّابِتَةِ ضِمْنًا لِلْإِعْتَاقِ فَكَانَ تَنْفِيذُ إعْتَاقِ الْبَائِعِ أَوْلَى، وَالثَّانِي أَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ وَمِلْكَ الْمُشْتَرِي يَثْبُتُ فِي الثَّانِي فَاعْتِبَارُ الْمَوْجُودِ لِلْحَالِ أَوْلَى هَذَا إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْبَائِعُ أَوْ الْمُشْتَرِي، فَأَمَّا إذَا كَانَا جَمِيعًا مُكْرَهَيْنِ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ فِي حَقِّهِمَا.
وَالثَّابِتُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ بِمَحَلِّ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ، فَإِنْ أَجَازَا جَمِيعًا جَازَ، وَإِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ جَازَ فِي جَانِبِهِ وَبَقِيَ الْخِيَارُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ، وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ وُجُودِ الْإِجَازَةِ مِنْ أَحَدِهِمَا أَصْلًا نَفَذَ إعْتَاقُهُ وَلَزِمَهُ الْقِيمَةُ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ تَصَرُّفٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَكَانَ إقْدَامُهُ عَلَيْهِ الْتِزَامًا لِلْبَيْعِ فِي جَانِبِهِ وَلَا تَجُوزُ إجَازَةُ الْبَائِعِ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْإِجَازَةِ بِالْإِعْتَاقِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ قِيَامَ الْمَحَلِّ وَقْتَ الْإِجَازَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِجَازَةِ، وَقَدْ هَلَكَ بِالْإِعْتَاقِ، وَلَوْ لَمْ يَعْتِقْهُ الْمُشْتَرِي وَلَكِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ ثُمَّ أَعْتَقَاهُ مَعًا نَفَذَ إعْتَاقُ الْبَائِعِ وَبَطَلَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كَانَتْ الْإِجَازَةُ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ مِنْ الْبَائِعِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْمُشْتَرِي نَفَذَ إعْتَاقُ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ إجَازَةَ الْمُشْتَرِي لَمْ تَعْمَلْ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ فَبَقِيَ الْبَائِعُ عَلَى خِيَارِهِ فَإِذَا أَعْتَقَ نَفَذَ إعْتَاقُهُ وَبَطَلَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ خِيَارَهُ بِالْإِجَازَةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَازَةُ مِنْ الْبَائِعِ فَتَنْفِيذُ إعْتَاقِهِ أَوْلَى أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوَجْهَيْنِ فِي إكْرَاهِ الْمُشْتَرِي.
وَلَوْ أَجَازَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ ثُمَّ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَعْتَقَ الْبَائِعُ بَعْدَهُ نَفَذَ إعْتَاقُ الْمُشْتَرِي وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ، وَلَا يَنْفُذُ إعْتَاقُ الْبَائِعِ أَمَّا نُفُوذُ إعْتَاقِ الْمُشْتَرِي فَلِبَقَاءِ الْخِيَارِ لَهُ.
وَأَمَّا عَدَمُ نُفُوذِ إعْتَاقِ الْبَائِعِ فَلِسُقُوطِ خِيَارِهِ بِالْإِجَازَةِ.
(وَأَمَّا) لُزُومُ الثَّمَنِ الْمُشْتَرِيَ فَلِلُزُومِ الْبَيْعِ فِي الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَيَسْتَوِي أَيْضًا فِي بَابِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ الْإِكْرَاهُ التَّامُّ وَالنَّاقِصُ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ يُفَوِّتُ الرِّضَا وَيَسْتَوِي فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْبَائِعِ تَسْمِيَةُ الْمُشْتَرِي وَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ حَتَّى يَفْسُدَ الْبَيْعُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا؛ لِأَنَّ غَرَضَ الْمُكْرِهِ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا وَاحِدٌ وَهُوَ إزَالَةُ مِلْكِ الْبَائِعِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْبَيْعِ مِنْ أَيِّ إنْسَانٍ كَانَ، وَلَوْ أَوْعَدَهُ بِضَرْبِ سَوْطٍ أَوْ الْحَبْسِ يَوْمًا أَوْ الْقَيْدِ يَوْمًا فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْإِكْرَاهِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ حَالَ الْمُكْرَهِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلِ هَذَا إذَا وَرَدَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ.
فَأَمَّا إذَا وَرَدَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فَبَاعَ الْوَكِيلُ وَسَلَّمَ وَهُوَ طَائِعٌ، وَالْمَبِيعُ عَبْدُهُ فَمَوْلَى الْعَبْدِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ أَوْ الْمُشْتَرِيَ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ رَجَعَ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ عَلَى أَحَدٍ، أَمَّا وِلَايَةُ تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ فَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ إكْرَاهٌ عَلَى الْبَيْعِ لَكِنْ بِوَاسِطَةِ التَّوْكِيلِ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ تَسْبِيبٌ إلَى إزَالَةِ الْيَدِ وَأَنَّهُ إتْلَافٌ مَعْنًى، فَكَانَ التَّلَفُ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ مُضَافًا إلَى الْمُكْرِهِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ تَضْمِينِ الْمُكْرِهِ.
وَأَمَّا تَضْمِينُ الْوَكِيلِ فَلِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي، وَقَبْضُ مَالِ الْإِنْسَانِ بِغَيْرِ رِضَاهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَكَانَ لَهُ وِلَايَةُ تَضْمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ.
فَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ يَرْجِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَدَّى الضَّمَانَ فَقَدْ نَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَائِعِ فَيَمْلِكُ تَضْمِينَهُ كَالْبَائِعِ وَلَكِنْ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْبَيْعُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبِعْهُ لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمَالِكُ فَيَقِفُ نَفَاذُهُ عَلَى إجَازَةِ مَنْ وَقَعَ لَهُ الْعَقْدُ وَهُوَ الْمَالِكُ لَا عَلَى فِعْلٍ يُوجَدُ مِنْهُ وَهُوَ أَدَاءُ الضَّمَانِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ الْغَاصِبُ الْمَغْصُوبَ ثُمَّ أَدَّى الضَّمَانَ أَنَّهُ يَنْفُذُ بَيْعُهُ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بَاعَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْمَالِكُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَجَازَ وُقُوفُهُ عَلَى فِعْلِهِ وَهُوَ أَدَاءُ الضَّمَانِ، وَجَازَ وُقُوفُهُ عَلَى فِعْلِ مَالِكِهِ أَيْضًا قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إنَّمَا يَمْلِكُهُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ لَا يَخْتَارَ الْمَالِكُ الضَّمَانَ فَلَا يَمْلِكُهُ الْغَاصِبُ لِذَلِكَ وَقَفَ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَحَدٍ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلُ الْمَبِيعِ، وَقَدْ سَلَّمَ لَهُ الْمُبْدَلَ ثُمَّ إنْ كَانَ الْبَائِعُ قَبَضَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي يَسْتَرِدُّهُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْهُ فَلَا شَيْءَ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
هَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ تَامًّا، فَإِنْ كَانَ نَاقِصًا لَا يَرْجِعُ الْمُكْرَهُ بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ النَّاقِصَ لَا يُوجِبُ نِسْبَةَ الْإِتْلَافِ إلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ أَوْ الْمُشْتَرِي لِمَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا) الْإِكْرَاهُ عَلَى الْهِبَةِ فَيُوجِبُ فَسَادَهَا كَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْبَيْعِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ مُكْرَهًا ثَبَتَ الْمِلْكُ كَمَا فِي الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ أَنَّ فِي بَابِ الْبَيْعِ إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وَسَلَّمَ طَائِعًا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَفِي بَابِ الْهِبَةِ مُكْرَهًا لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ سَلَّمَ مُكْرَهًا أَوْ طَائِعًا، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ صِحَّتُهُ بِاللِّسَانِ كَالْبَيْعِ حَتَّى تَبْطُلَ الشُّفْعَةُ بِالسُّكُوتِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ ثُمَّ الْبَيْعُ يَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فَكَذَلِكَ تَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ.
وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِبْرَاءِ عَنْ الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ، وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَلَا يَصِحُّ فِي الْمَجْهُولِ كَالْبَيْعِ، ثُمَّ الْبَيْعُ يَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ فَكَذَلِكَ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إبْرَاءٌ عَنْ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةُ الْمَالِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْبَيْعِ الَّذِي هُوَ تَمْلِيكُ الْمَالِ فَيَعْمَلُ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ كَمَا يَعْمَلُ عَلَى الْبَيْعِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ هَذَا إذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِنْشَاءِ، فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى الْإِقْرَارِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ أَوْ لَمْ يَكُنْ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ، وَصِحَّةُ الْإِخْبَارِ عَنْ الْمَاضِي بِوُجُودِ الْمُخْبَرِ بِهِ سَابِقًا عَلَى الْإِخْبَارِ، وَالْمُخْبَرُ بِهِ هاهنا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ جَنْبَةُ الْوُجُودِ عَلَى جَنْبَةِ الْعَدَمِ بِالصِّدْقِ، وَحَالُ الْإِكْرَاهِ لَا يَدُلُّ عَلَى الصِّدْقِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَحَرَّجُ عَنْ الْكَذِبِ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ فَلَا يَثْبُتُ الرُّجْحَانُ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ بَابِ الشَّهَادَةِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}.
وَالشَّهَادَةُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَيْسَ إلَّا الْإِقْرَارُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالشَّهَادَةُ تَرِدُ بِالتُّهْمَةِ وَهُوَ مُتَّهَمٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِمَا قُلْنَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ، فَأَمَّا الْمَالُ فَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ هُنَاكَ فَلَأَنْ لَا يَصِحَّ هاهنا أَوْلَى، وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ ثُمَّ خَلَّى سَبِيلَهُ قَبْلَ أَنْ يُقِرَّ بِهِ، ثُمَّ أَخَذَهُ فَأَقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الْإِكْرَاهِ، فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إمَّا أَنْ تَوَارَى عَنْ بَصَرِ الْمُكْرِهِ حِينَ مَا خَلَّى سَبِيلَهُ، وَإِمَّا أَنْ لَمْ يَتَوَارَ عَنْ بَصَرِهِ حَتَّى بَعَثَ مَنْ أَخَذَهُ وَرَدَّهُ إلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْ تَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ ثُمَّ أَخَذَهُ فَأَقَرَّ إقْرَارًا مُسْتَقْبَلًا جَازَ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَلَّى سَبِيلَهُ حَتَّى تَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ، فَقَدْ زَالَ الْإِكْرَاهُ عَنْهُ فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ جَدِيدٍ فَقَدْ أَقَرَّ طَائِعًا فَصَحَّ، وَإِنْ لَمْ يَتَوَارَ عَنْ بَصَرِهِ بَعْدُ حَتَّى رَدَّهُ إلَيْهِ فَأَقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدِ الْإِكْرَاهِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَوَارَ عَنْ بَصَرِهِ فَهُوَ عَلَى الْإِكْرَاهِ الْأَوَّلِ.
وَلَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ فَأَقَرَّ بِهِ فَقَتَلَهُ حِينَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ يُدْرَأْ عَنْهُ الْقِصَاصُ اسْتِحْسَانًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِهَا يَجِبْ الْقِصَاصُ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ كَيْفَ مَا كَانَ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْإِقْرَارَ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ شَرْعًا صَارَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ ابْتِدَاءً، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إنْ كَانَ لَا يَصِحُّ مَعَ الْإِكْرَاهِ لَكِنْ لِهَذَا الْإِقْرَارِ شُبْهَةُ الصِّحَّةِ إذَا كَانَ الْمُقِرُّ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ، لِوُجُودِ دَلِيلِ الصِّدْقِ فِي الْجُمْلَةِ وَذَا يُورِثُ شُبْهَةً فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَبَدَأَ لِلشُّبْهَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ فَإِقْرَارُهُ لَا يُورِثُ شُبْهَةً فِي الْوُجُوبِ فَيَجِبُ، وَمِثَالُ هَذَا إذَا دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فِي مَنْزِلِهِ فَخَافَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنَّهُ ذَاعِرٌ دَخَلَ عَلَيْهِ لِيَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَالَهُ فَبَادَرَهُ وَقَتَلَهُ، فَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْزِلِ.
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ كَذَا هَذَا، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ يَجِبُ الْأَرْشُ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ، وَأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْأَرْشُ أَيْضًا إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالذِّعَارَةِ.